المستكبرون والمستضعفون في القرآن الكريم
طارق عبد الحليم
يقول - جل وعلا -: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) [سبأ - 31].
اتهامات تتراشق، ولوائم تتدافق، ندامة تٌسَرّ وحسرات تُفـَجّر، صورة يرسمها القرآن الكريم للحوار المرير الدائر بين الطرفين الخاسرين، الطائفة المستضعفة من الشعوب المقهورة التابعة، التي رضخت للهوان والتبعية والذلّ، بل ورضيت به وتابعت عليه، بل واستمرأته واستمتعت به، رغم وصف القرآن لها بالاستضعاف، فالاستضعاف لا يبرر المتابعة ولا يقيم حجة على الرضا، الاستضعاف سببٌ لا نتيجة، سببٌ في استمرار القهر والظلم والتكبّر، لا نتيجة له، وبين الطائفة المستكبرة الطاغية المتسلطة، المستقوية بالدنيا ومتاعها بالحرام والنهب، التي لا ترى صالح إلا صالحها ولا باطل إلا مُعارضها، ولا حقّ إلا ما يرفعها في الدنيا على أعناق الناس.
تُنحى الطائفة المستضعفة، التي رضيت وتابعت واستمرأت، باللائمة على أسيادها من الطائفة الحاكمة المستكبرة، أنْ أنتم سببُ ما آل إليه حالنا في الآخرة، ولولا ما هيأتموه لنا من أسباب اللهو الباطل والفجور والفساد والربا والزيف، لما كنا على أبواب جهنم راسفين في الغلّ.
(قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ) [سبأ - 32]، لكنّ الطائفة الحاكمة المستكبرة لا تقبل هذا الاتهام بل تردّه على الطائفة المستضعفة ردّاً غير كريم، قالوا: بل إنّ بذرة الإجرام كانت مزروعة في نفوسكم، ونحن لم نعمم عليكم طلب الخروج عن شرع الله - تعالى -، بل تَرَك الصلاة من تركها بخاطره، وخلعت الحجاب وتعرّت من تعرّت بخاطرها، ورابى من رابى بخاطره، واستمتع من استمتع بالأجساد العارية على الشاشات، وفي الطرقات و"المولات" بخاطره، وتابعتم ما جعلناه خلافاً لما فرض الله شرعاً محكّماً فيما بينكم وبين بعض وفيما يخصكم، فلا تلومونا ولوموا أنفسكم.
(وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً)، وتتبين للطائفة المستضعفة ما لم يتبين لها في الدنيا، من استراتيجية الباطل، وطرق التمهيد له ونشره، فتصيح محتجة على الطائفة الحاكمة المستكبرة، أنْ أنتم من تابع علينا بالإعلانات والمقالات والمسلسلات ليلاً ونهاراً، صيفاً وشتاءً، فأقمتم لنا آلهة جديدة نتعبد لها، آلهة السينما والحب والغناء، وأطلقتم علينا شياطين الأنس لتُسهّل كلّ طريق للتغريب، وتسد كلّ طريق للحق والصواب، ووضعتم من رفعه الله بالعلم والتقوى، ورفعتم من وضعه الله بالفجور والفساد.
نصّبتم علينا شيوخاّ شروْا الدنيا بالآخرة ولبّسوا الحق بالباطل، وسجنتم أفاضل لا يريدون إلا الإصلاح في الأرض، أنتم سبب ما نحن فيه وما نحن إلا ضحية مظلومة، فيا حسرة الحسرات ويا ندامة على ما فات!
(وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) لكن الله يحسم هذا الجدل العقيم، فيظهر لكلا الطائفتين ما أعدّ لهم من العذاب، وقّيدت الأعناق بالأغلال وذهبت حرية الاختيار التي كانت مكفولة لهم في الدنيا.
(هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سبأ - 33]، وقد يظن الظانّ أنّ هذا ظلمٌ للطائفة المستَضْعَفة، ولكن الله - سبحانه - يبين أن النفس لا تُعاقب إلا بما جنت يداها وبما كسبت برضاها، فالطائفة الراضية المستكينة المتابعة قد "عملت" ما تستحق به هذا العذاب، وعملها هنا هو سكوتها على الباطل وخضوعها له ورضاها به.